Tags: المغرب محمد السادس الحسن الثاني المقال الثاني لصحيفة لوموند
الاثنين، 25 أغسطس 2025
6:22 مساءً (باريس)
لوموند
لغز محمد السادس – الجزء 2/6
شباب محمد السادس في ظل الحسن الثاني
«لغز محمد السادس» (2/6). قبل اعتلائه العرش عام 1999، كان على العاهل المغربي أن يتحمل ازدراء والده، المستبد الذي عاتبه على حبه للسهر والاحتفالات، وشكك في قدرته على الحكم.
بقلم: كريستوف آياد وفريدريك بوبان
الملك مات، عاش الملك. في 25 يوليو 1999، ودّع المغرب ملكه وسط الغبار والحزن. فقد توفي الحسن الثاني قبل 48 ساعة في الرباط عن عمر ناهز السبعين عاماً. لم يكن مرضه سراً، لكن قبل عشرة أيام فقط من وفاته كان واقفاً على جادة الشانزليزيه بباريس كضيف شرف في احتفالات العيد الوطني الفرنسي بدعوة من صديقه جاك شيراك. وبعد عودته إلى المغرب، اتصل بالرئيس الفرنسي طالباً جبنة ألبية كان مولعاً بها.
لكن الموت باغته سريعاً، فأذهل بلداً بأكمله شكّله منذ الاستقلال وحتى مشارف القرن الحادي والعشرين. من 1961 إلى 1999، نجا من طموحات اليسار الثورية، ومن حركات انفصالية في الريف شمالاً، ومن محاولات انقلابية من داخل جيشه نفسه. كما وسّع حدود المغرب بإطلاق «المسيرة الخضراء» عام 1975، فاستولى على الصحراء الإسبانية السابقة جنوباً، والمعروفة اليوم بالصحراء الغربية. وقد حافظ الحسن الثاني على سلطته بإلهام خليط من الخوف والإعجاب داخل المملكة وخارجها.
في ذروة الصيف، حضر عدد من قادة العالم لتأبين هذا الحليف الوفي للغرب. من بينهم، بطبيعة الحال، جاك شيراك الذي كان يرى نفسه بمثابة عمّ لعائلة العلويين. وقبل خمسة عشر يوماً من وفاته، جعله الحسن الثاني يتعهد بالإشراف على الخطوات الأولى لولي العهد.
كان بيل كلينتون وزوجته هيلاري من بين الحاضرين أيضاً. وعندما أراد الرئيس الأمريكي ارتداء سترة واقية من الرصاص، أوضح له أفراد العائلة الملكية أن ذلك سيكون «إهانة» لسمعة البلاد، فامتنع. كما حضر الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش والملك خوان كارلوس ملك إسبانيا. أما القادة العرب، فلم يحضر منهم إلا القليل، إذ كان الحسن الثاني يعتبر الجامعة العربية «اجتماعاً لبدو وضباط صغار».
صفحة شبه بيضاء
التابوت الخشبي، المغطى بقطعة حريرية سوداء منقوش عليها الشهادة، حُمل على الأكتاف من قبل الأصدقاء والأقارب وأفراد البلاط الملكي وسط مشاهد فوضوية وحماس دموع. كان الحر شديداً، وتزاحم بين مليونين وثلاثة ملايين شخص في الجنازة. وفي المقدمة وقف شاب بملامح مترددة، يبدو تائهاً ومصدوماً: محمد السادس. «كانت هناك حماسة عظيمة وقليل جداً من الأمن»، كما روى دبلوماسي فرنسي.
كان الجميع هناك لتوديع الحسن الثاني، لكن أيضاً لتمحيص محمد السادس، الذي كان حينها في الخامسة والثلاثين: هل سيرتقي إلى التحديات المقبلة؟ هل سيتمكن من مواجهة مخاطر الخلافة وصعود الإسلاميين؟ في تلك اللحظة كان لغزاً، صفحة شبه بيضاء في تاريخ البلاد. «هنا، الملك يحكم حتى أنفاسه الأخيرة»، قال مسؤول مغربي. «لا يوجد انتقال ولا تسليم».
كان محمد السادس يعيش شعوراً متناقضاً. مرتاحاً من أنه لن يضطر بعد الآن لتحمل إهانات والده، لكنه في الوقت نفسه مرعوب من ثقل المسؤوليات الجديدة. في ليلة وفاة الحسن الثاني، أصرّ ابن عمه الأمير هشام أن يبيت في القصر الملكي بدلاً من إقامته الخاصة في حي «لي سابلون» بالرباط. وفي ليلة الجنازة، اصطدم معه مجدداً عندما وبّخ محمد وأخاه الأصغر رشيد، معتبراً أن حالتهما المزاجية تبدو مفرطة في البهجة وكأنهما مرتاحان لرحيل والدهما.
ظل محمد السادس يحمل ضغينة عميقة تجاه ابن عمه، الذي لم يكن يطيق «ادعاءاته الفكرية». وهذه الحكاية، كسائر المعلومات في هذا التحقيق، من المستحيل التحقق منها مع القصر: فالإدارة الملكية ترفض عادة الرد على طلبات التأكيد من الصحفيين الأجانب، وتفضل تشويه سمعتهم مسبقاً عبر وسيلة الإعلام غير الرسمية «Le360».
عند اعتلائه العرش، لم يكن الملك الشاب قد تعامل فعلياً مع شؤون الدولة. أقصى ما كان يقوم به من حين لآخر هو مهام بروتوكولية نيابة عن والده. ففي أبريل 1974، وهو في العاشرة من عمره، مثّل المملكة في جنازة الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو في كاتدرائية نوتردام بباريس. يومها رافقه وزير الخارجية الفرنسي ميشال جوبيه عن كثب.
لكن دوره ظل دائماً محصوراً في المهام البروتوكولية، بلا مسؤوليات حقيقية.
في القضايا الكبرى، كان عديم الخبرة تماماً، إذ أبقاه الحسن الثاني بعيداً دائماً. على سبيل المثال، في فبراير 1992، حين زار الأدميرال جاك لانكزاد، رئيس أركان الجيوش الفرنسية، قصر الصخيرات، لم يكن مسموحاً لولي العهد الشاب بحضور النقاشات حول مستقبل البلاد الاستراتيجي.
استقبله في المطار، لكنه عند بدء الاجتماع أُرسل إلى الخارج، تاركاً إياه على الشرفة وكأنه دخيل. وقد روى هنري بونو دو كونياغ، سفير فرنسا في الرباط بين 1993 و1995، تلك الحادثة للصحفي إيناس دال في كتابه «الملوك الثلاثة: الملكية المغربية من الاستقلال إلى اليوم». وقال الدبلوماسي: «إنه أمر لا يُصدق، فلم يُوضع سيدي محمد [الاسم الأصلي للملك] أبداً في موقع مسؤولية».
قيد تعليمي خانق
خجول للغاية، لم يعقد الملك محمد السادس مؤتمراً صحفياً قط، خلافاً لوالده. فقد اكتفى بقراءة خطابات معدّة مسبقاً بصوت رتيب ومتعب. كما تجنّب القمم الدولية، حيث كان سيتعين عليه التفاعل مباشرة مع قادة دول آخرين. أما مقابلاته، فهي دائماً مع الصحافة الأجنبية (لوفيغارو، الباييس، أو باري ماتش) وليس مع الإعلام المغربي، وتُحضّر مسبقاً وتُعاد صياغتها لاحقاً.
الصحفي الإسباني إغناسيو سيمبريرو، الممنوع حالياً من دخول المغرب، تذكّر لقائه به أول مرة خلال مقابلة منحها الحسن الثاني للصحافة الإسبانية في قصر الصخيرات: «في نهاية المقابلة، اقترح [الحسن الثاني] أن نلتقي بأبنائه. فوجدنا أنفسنا بجانب المسبح، نشرب عصير الفاكهة ونتحدث مع الشابين. كان مولاي رشيد، الأصغر، كثير الكلام. أما مولاي محمد، بالكاد نطق بكلمة». هذه الطبيعة الانطوائية قد تتحول إلى نوبات غضب عنيفة ومفاجئة.
وُلد محمد السادس في 21 أغسطس 1963، وكان الطفل الثاني للحسن الثاني وللا لطيفة، التي كانت تُلقب بين زوجات الملك وجواريه بـ«أم الأمراء». نشأ في القصر الملكي بالرباط، مكان لم يحبه كثيراً بسبب ذكريات طفولة غير سعيدة. ومنذ ولادته كان مقدّراً له أن يصبح الملك الثالث والعشرين من سلالة العلويين، وثالث ملك منذ استقلال المغرب عام 1956.
في الرابعة من عمره، التحق بـ«المدرسة المولوية»، التي أنشئت داخل القصر نفسه. هذه المؤسسة الفريدة، الخاصة بالملكية العلوية، أسسها جده محمد الخامس عام 1942، أثناء فترة الحماية الفرنسية. وكان هدفها توفير تعليم حديث باللغة الفرنسية لولي العهد في بيئة نخبوية تعكس نسخة مصغّرة من المغرب. هناك، يلتقي أبناء العائلات البارزة بأبناء العامة المتفوقين دراسياً والمختارين من مختلف مناطق البلاد.
وفي المدرسة المولوية، التقى محمد بمعظم أصدقائه ومستشاريه المستقبليين، منهم فؤاد عالي الهمة، الذي سيُلقب لاحقاً بـ«نائب الملك»؛ ياسين المنصوري، الذي أصبح مدير المخابرات الخارجية عام 2005؛ حسن أوريد، الذي شغل لفترة منصب الناطق الرسمي باسم القصر قبل أن يسقط من حساباته؛ محمد رشدي الشرايبي، الذي أصبح مدير ديوانه؛ فاضل بنيعيش، سفير المغرب في إسبانيا بين 2014 و2017؛ والمصوّر كريم رمزي.
من بين اثني عشر تلميذاً – أربعة أبناء عائلات بارزة وسبعة من «المستحقين» – لم يكن ولي العهد المستقبلي، الذي كان يُنادى باحترام من الآخرين بـ«سميت سيدي» («اسم السيد»)، من بين المتفوقين، مما أثار استياء والده الذي كان يراقب تقدمه الدراسي عن كثب. وعندما علم ذات يوم أن ابنه، الذي كان شغفه الأكبر الفنون البصرية والرسم، لم يحصل سوى على 10 من 20 في مادة القانون الدستوري، استشاط الحسن الثاني غضباً ووبّخ الأستاذ: «كيف يمكن لملك المستقبل أن يحصل على مثل هذه الدرجة؟»
لكن حين أراه الأستاذ ورقة الامتحان، لم يجد الملك بداً من الاعتراف – على مضض – بضعف الأداء. واضطر ولي العهد ومعلمه إلى إعادة دورة جديدة في القانون الدستوري. قال زميل سابق له: «لم يأخذ دراسته في المدرسة المولوية على محمل الجد قط. كان يراها عقاباً. كان يفضل الحفلات والموسيقى والأفلام. وكان مولعاً بشكل خاص بأفلام الرعب».
كمراهق ثم كشاب، بدا وكأنه ينتهز كل فرصة ليتحرر من أعباء الطقوس الأميرية الثقيلة. «لم يكن لديه لحظة فراغ»، يقول فرنسي التقى به بالصدفة في الثمانينيات. «كان مضطراً دوماً لتلقي الدروس، يتنقل بين تعليمه الأكاديمي ودروس الفروسية في إسطبلات سابلون بالقصر الملكي».
كان سيدي محمد يتوق إلى آفاق جديدة ومعارف غير مألوفة تكسر القيود الخانقة التي تحيط به. وأحياناً، كان يتصرف بدافع نزوة في أكثر اللحظات غير المتوقعة. مثلما حدث في مطلع التسعينيات، حين التقى في حفلة كوكتيل بطيار أمريكي من أصل إفريقي يعمل في طاقم السفارة الأمريكية بالرباط، وكان قبل كل شيء عاشقاً لموسيقى البلوز ومعجباً بتشاك براون، مخترع موسيقى «غو-غو» (مزيج من الفانك والسول والإيقاعات اللاتينية). ناداه الطيار قائلاً: «عليك أن تزورني في بيتي لتستمع إلى أسطواناتي، لدي بعض موسيقى تشاك براون».
فجوة بين الأب والابن
يا لها من دعوة! بعد أيام قليلة، ظهر سيدي محمد في بيت الطيار، يقود سيارته الأستون مارتن، فسارع الأخير إلى تشغيل تسجيلاته. شكره ولي العهد بإهدائه سيارة مرسيدس. وعندما نُقل الطيار إلى ألمانيا، أصيب سيدي محمد بخيبة أمل وحاول بكل السبل – دون جدوى – أن يُبقيه في منصبه بالرباط. لقد فقد صديقاً مرحاً كان يسليه بإيقاعات «الغو-غو».
لم يكن قادراً على الهروب من رتابة الحياة الخانقة في عالم تحكمه بروتوكولات صارمة وتقاليد أشبه أحياناً بالقرون الوسطى. وكان ذلك عالماً أنثوياً بامتياز: فإلى جانب والدته، كان يعيش في القصر نحو أربعين جارية، محتجزات وممنوعات من مغادرته. وكان من أوائل قراراته بعد توليه العرش عام 1999 تحرير هؤلاء النساء والسماح لهن بالعودة إلى بلداتهن مقابل التزامهن الصمت بشأن ماضيهن، مع منحة مالية صغيرة. ويربط بعض المراقبين بين هذه التجربة وبين دفعه لاحقاً إلى إصلاح مدونة الأسرة المغربية (المُدوّنة) عام 2004، في محاولة لتحسين حقوق المرأة، وإن جاءت النتائج متباينة.
لم تكن هناك أبداً صلة حقيقية بين الأب وابنه الأكبر. وكان ذلك في الأساس بسبب شخصية الأول الطاغية: ملك نرجسي، متسلط، لا يحتمل أدنى معارضة أو انحراف، بينما يسمح لنفسه بكل شيء. كان الحسن الثاني مستبداً ساحراً وبليغاً، مدخناً شرهاً، يتفاخر بالظهور على التلفزيون الفرنسي والإجابة مباشرة عن أسئلة مقدمي البرامج والمشاهدين. على الأقل، كان الأمر كذلك إلى أن فجر كتاب جيل بيرو «صديقنا الملك» فضيحة مدوية كشفت الوجه المظلم من عهده – معتقل تازمامارت، الاغتيالات السياسية، التعذيب والمزيد – ما أدى إلى عاصفة سياسية ودبلوماسية بين باريس والرباط.
أما محمد السادس، فكان طفلاً خجولاً، قليل الثقة بنفسه، متردداً في الظهور العلني وأداء واجبات منصبه. كان يحب السهر في الملاهي الليلية مع أصدقائه، والذهاب إلى الشاطئ وممارسة الرياضات المائية، لدرجة أن الناس لقبوه بـ«صاحب الجلالة-سكي» (His Majetski). وكان إلى جانبه صديقه منذ الطفولة، علي بونغو، نجل رئيس الغابون، الداعم الوفي للملكية المغربية ولشبكة «فرانس-أفريك» التي تمثل العلاقات السياسية والاقتصادية بين فرنسا ومستعمراتها الإفريقية السابقة.
وبدلاً من حضور الدروس في المدرسة المولوية ثم الجامعة، كان الأمير يفضل قضاء وقته في ملهى «أمنيزيا»، النادي الليلي الشهير في الرباط، بل وكان أحياناً يتسلل خفية للذهاب إليه.
كان والده يعتبره هشاً للغاية. مقتنعاً بأنه لم يمتلك بعد صفات الملك، سعى إلى تأديبه وتصلبيه، ولم يتردد في اللجوء إلى العقوبات والإهانات، بل وحتى العقاب البدني، وهو ما اعترف به صراحة لصحفيه إيريك لوران في كتاب «الحسن الثاني: ذاكرة ملك»: «حتى سن العاشرة أو الثانية عشرة، كنت أُضرب بالعصا (…) وأظهرت نفس الصرامة تجاه أبنائي».
وقد أكد محمد السادس نفسه لاحقاً ذلك لمجلة باريس ماتش عبر الصحفية كارولين بيغوزي، قائلاً: «لقد تربينا – أخواتي وأخي وأنا – تربية صارمة للغاية».
كان الأب يقارن ابنه دائماً بابن عمه هشام، المتمرد اللامع الذي كان يفضل لو كان ابنه. وذات يوم، وفي انفعال أمام الصحفي لوران، أطلق الحسن الثاني عبارتين قاسيتين عن ابنه الأكبر، اقتبسهما لاحقاً الصحفي المغربي عمر بروكسي في كتابه «المغرب: التحقيقات المحرمة»: «حتى النهاية، ما زلت أتساءل، ورغم المظاهر، لم أحسم خياري نهائياً. لن أقبل أبداً، بأي حال، أن يقع هذا البلد ضحية خطأ كروموسومي».
جانب حاقد
كانت والدته، لالة لطيفة، التي حملت لقب «أميرة القرين» لمدة 37 عاماً بدلاً من لقب الملكة، كثيراً ما تحمي ابنها الأكبر من غضب والده. كان متعلقاً بها بشدة حتى وفاتها في 29 يونيو 2024 بالرباط – أو بالأحرى حتى وفاة والده عام 1999. فبعد أقل من عام، انتقلت إلى ضاحية نويي-سور-سين الراقية قرب باريس حيث امتلكت منزلاً، وتزوجت في مايو 2000 من محمد المديوري، رئيس الأمن الملكي السابق، الذي كانت الشائعات تربطه بها منذ زمن بعيد. ويبدو أن محمد السادس لم يغفر لها أبداً هذا الزواج.
في مايو 2019، وأثناء إقامته في مراكش، تعرّض المديوري لهجوم مسلحين أصابوا سائقه وسرقوا سيارته قبل أن يفروا. كان ذلك حدثاً غير مسبوق في «المدينة الحمراء» التي اعتادت على رقابة أمنية صارمة بفضل وجود عشرات الآلاف من السياح الأجانب. هرعت لطيفة من فرنسا لتكون إلى جانب زوجها، الذي كان يبلغ 81 عاماً ومصدوماً بشدة. وعند وصولها، صرفت رجال الأمن الذين عيّنهم لها ابنها بعد الهجوم، مفضلة الاستعانة بحراسها الخاصين.
رغم شكوكه في قدرة ابنه على الحكم، لم يرغب الحسن الثاني أبداً في خرق نظام ولاية العهد لصالح هشام أو رشيد، رغم محاولات وزير داخليته وذراعه الأيمن إدريس البصري. «كان مصراً بأي ثمن على احترام التقاليد وتسلسل الخلافة»، قال أحد المقربين من العائلة. وقد أزاح محمد السادس لاحقاً البصري لمعاقبته على سعيه لإيجاد بديل، بالإضافة إلى تجسسه على حياته الخاصة. هذا الجانب الانتقامي سيصبح سمة بارزة في حكم محمد السادس: لا يغفر إساءة ولا كلمة في غير محلها.
في شبابه، أعد الأمير نفسه قدر الإمكان لمهامه المستقبلية: شهادة في القانون، دبلوم دراسات عليا في العلوم السياسية، وشهادة دكتوراه في القانون العام. وفي عام 1985، عُيّن منسقاً لمكاتب وأقسام هيئة الأركان العامة. وبعد تسع سنوات، رُقّي إلى رتبة فريق أول – خبرة مفيدة لضمان ولاء جيش حاول مرتين الإطاحة بالحسن الثاني.
في أواخر 1988، بدأ ولي العهد تدريباً لمدة ثمانية أشهر في المفوضية الأوروبية تحت رئاسة جاك ديلور. كان يتنقل يومياً مع حراسه المسلحين إلى الطابق العلوي من مبنى «بيرلايمون» في بروكسل. قال مسؤول كبير: «كان أكثر اهتماماً بالسهر في أمستردام من الاهتمام بآليات الاتحاد الأوروبي». وفي أوائل التسعينيات، حصل على دكتوراه في القانون من جامعة نيس-صوفيا-أنتيبوليس حول العلاقة بين المجموعة الاقتصادية الأوروبية واتحاد المغرب العربي، دون أن يزور المؤسسة أكثر من مرة واحدة.
في الواقع، كان «العقل السياسي» بين الأشقاء هو شقيقته الكبرى، الأميرة للا مريم، التي كان شيراك يتحدث معها هاتفياً كثيراً. في ذلك الوقت، كان الرئيس الفرنسي يرى نفسه بمثابة مرشد للشاب، وكثيراً ما يحدثه عن والده ومسؤولياته، مما كان يزعجه. أما محمد فكان يفضل الملك الإسباني خوان كارلوس، ذو الطابع المرح والباحث عن المتعة.
كان أيضاً على معرفة بعدد من الرؤساء الأفارقة، خاصة عمر بونغو رئيس الغابون، الذي كان بمثابة عمّ له. كما كان يخالط ملوك الخليج وارتبط بعلاقة صداقة مع حمد بن عيسى آل خليفة، ولي عهد البحرين آنذاك، الذي كان يكبره قليلاً واعتلى العرش بعد ثلاث سنوات من اعتلائه. «إذا قارن نفسه بأحد، فهو يقارن نفسه بأمراء الخليج أكثر من القادة الغربيين»، أوضح أحد الدبلوماسيين. «فلا يوجد عندهم تمييز بين ثروتهم الخاصة وثروة بلادهم، بين السلطة وشخصهم». أما محمد السادس فقد بنى ثروة تضاهي ثرواتهم.
كان لديه ذوق للأشياء الباذخة. صحيح أن والده لم يكن ناسكاً، لكن ميل محمد السادس نحو البذخ بدا مضاعفاً. فإذا كان مقدراً لك أن تكون ملكاً، فمن الأفضل أن تستمتع بذلك. قال أحد العارفين بالقصر: «محمد السادس يحب الترف، لكنه يحمل أيضاً جانب الشاب المشاغب». وقد استفاد من ذلك محيط صغير من الملاكمين ومغني الراب. وإذا كان هناك صفة يعترف له بها المقربون، فهي الكرم بالتأكيد.
جينز ممزق وأحذية رياضية
عندما أخبرته بناته يوماً أنهن ذاهبات لقضاء عطلة في نيويورك، منحهن عشرات الآلاف من الدولارات. وعندما استمتع بوجبة عشاء في مطعم بباريس أو ميامي أو غيرها، كان يترك بقشيشاً يصل إلى 3,000 يورو. أما أصدقاؤه المقربون، فكان يغدق عليهم بالهدايا. من بينهم الإخوة عزايتار، وهم عائلة من مقاتلي الفنون القتالية المختلطة من أصول مغربية ألمانية، إضافة إلى شخصيات من عالم الاستعراض كان يحب قضاء الوقت معهم. فالمغني الجزائري الشاب خالد، ومغني الراب الكونغولي «مايتر غيمس» مثلاً، حصلا على فيلات في المغرب عربوناً عن تقديره.
لم يحرم نفسه من شيء: لا السهرات ولا الأماكن الحصرية – فيلا في زنجبار، عقار في الغابون، قصر في فرنسا، وإجازات في السيشل حيث كان طاقم البروتوكول يعيد تزيين طوابق الفندق التي يشغلها لتناسب ذوقه. قال للصحفية بيغوزي، إحدى الصحفيات القلائل اللواتي وثق بهن: «قررت ألا أغيّر شيئاً، مطلقاً، في حياتي السابقة». كما كان يعشق قيادة سياراته العديدة بنفسه.
سواء في الزيارات الرسمية أو في الأوساط الخاصة، لم يتوقف الملك عن ارتياد الملاهي الليلية خلال أسفاره، وكان دائمًا يصطحب معه حاشية من عشرات الأشخاص، أشبه بـ « حرملك متنقل ». في أوروبا وخارجها، بقيت ذكريات « حفلاته » حيّة في الأذهان. في مدريد، خلال أول زيارة رسمية له، أبعد الشرطة الإسبانية المكلّفة بحمايته وحوّل مقر الإقامة الرسمي الذي كان ينزل فيه إلى « نادي ليلي ».
في أمستردام، تعرّف عليه أحد روّاد النوادي المشهورين خلال حفل، وتحدث عن الأمر في اليوم التالي على قناة تلفزيونية وطنية. أما في سنغافورة، فقد خرجت حفلة عن السيطرة في أحد الفنادق الفاخرة إلى درجة أن شيراك، وبعد أن اتصل به مدير الفندق الفرنسي طالبًا المساعدة، أرسل جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية للتدخل بهدوء وإعادة النظام دون إثارة الانتباه.
كان الملك مولعًا بشكل خاص بعوالم الفن والأزياء. كان يستمتع بالتسوق في الأحياء الراقية لعواصم أوروبا ولم يُخف ذلك قط. وعندما كان الناس العاديون يتعرفون عليه، كان يلتقط معهم صور « سيلفي » بكل سرور. وفي باريس، شاهده الناس، وهو من عشّاق أسلوب « الكول شيك »، يتجول في شوارع حي « المرّاي » مرتديًا سروال جينز ممزقًا وحذاء رياضيًا.
لكن ماذا كان رأي المغاربة في هذه الحرية المستجدة؟ من الصعب معرفة ذلك على وجه اليقين، بما أن المؤسسة الملكية بقيت مقدّسة ويستحيل انتقادها. ومع ذلك، يبدو أن هذه السلوكيات المتحررة، وهذا الاستعراض للثروة، راقت لهم: « إنهم فخورون بكون ملكهم غنيًا، لأن ذلك يعني أن بلدهم قوي »، كما قال شخص مطلع جيدًا على شؤون القصر وعلى المغرب.
بظهوره كمريض يتعافى في مستشفى بباريس سنة 2017 في صورة عائلية، كسر محمد السادس طابو آخر: طابو صحة الملك. في المغرب، كان الجميع يعلم أنه مريض – سر معلن – لكن طبيعة مرضه الدقيقة بقيت سرًا من أسرار الدولة. معظم من تمت مقابلتهم أجمعوا على أنه مصاب بـ الساركويدوز، وهو مرض نادر مجهول السبب يظهر عادة بين سن العشرين والأربعين، ويصيب في أغلب الحالات الرئتين مع مضاعفات لاحقة في أعضاء أخرى. فيما اعتقد آخرون، بشكل أقل شيوعًا، أنه يعاني من التهاب الغدة الدرقية لهاشيموتو، وهو التهاب مناعي ذاتي مزمن يصيب الغدة الدرقية.
هناك أمر واحد مؤكد الآن: الملك عولج لسنوات بالكورتيزون. وهذا ما يفسر وجهه المنتفخ واستدارة جسده بشكل متواصل على مر السنين، إلى أن خضع لعملية استشفاء طويلة سنة 2017. بعد ذلك، استعاد تدريجيًا قوامًا طبيعيًا، بفضل علاجات أقل تدخلاً، ويُقال أيضًا بفضل ممارسته للرياضة، بتشجيع من دائرته الجديدة من مقاتلي فنون القتال المختلطة والملاكمين.
في الصورة الشهيرة التي ظهر فيها طريح الفراش مبتسمًا في مستشفى بباريس، كان هناك شخص غائب: زوجته لالة سلمى. بعد بضعة أشهر، في مطلع 2018، تطلقا. استغرق الأمر عامًا آخر قبل أن يصبح الانفصال رسميًا. « من خلال السماح بإعلان الخبر رسميًا، كان الأمر أشبه بتحرر محمد السادس نهائيًا من التقاليد »، كما أوضح شخص مقرب من القصر.
ومنذ ذلك الحين، لم يتزوج مجددًا. ومن الجدير بالذكر أنه لم يكن مولعًا بالحياة الزوجية أصلاً. كما أنه، بطرق غير مباشرة، جعل المغاربة يتقبلون هذا الواقع. قد يتداولونه في الأحاديث الخاصة – على الأقل في أوساط البرجوازية العليا المتصلة بدوائر النفوذ – لكنهم لا يجعلون منه موضوعًا للنقاش العلني.
حتى الإسلاميين، بمن فيهم أعضاء جماعة العدل والإحسان (الحركة الدينية والسياسية التي تُعتبر الأكثر تحديًا للسلطة الملكية)، تركوا الملك وشأنه في حياته الخاصة. غير أن هذا التسامح لا يمتد إلى المواطنين العاديين: إذ لا تزال المحاكم تصدر أحكامًا قاسية على من يجرؤ على كسر الأعراف العامة والإسلامية، سواء كانوا مثليين، أو أزواجًا خارج إطار الزواج، أو ملحدين معلنين، أو نشطاء جمهوريين.