إذا كان خليهن هو العراب السياسي للعائلة، فإن شقيقه حمدي ولد الرشيد، المولود عام 1947، يُعتبر الذراع الاقتصادية الحقيقية والدينامو الذي يدير الإمبراطورية المالية. منذ عام 2006، يشغل حمدي منصب رئيس بلدية ومجلس جماعة العيون، وهو أيضاً رئيس جهة العيون الساقية الحمراء، ونائب برلماني عن دائرة العيون منذ 2002، وعضو في المكتب المركزي لحزب الاستقلال ومنسق الحزب في الأقاليم الجنوبية الثلاثة.
Tags : الصحراء الغربية المغرب عائلة أهل الرشيد الفساد خليهن الرشيد حمدي ولد الرشيد ابراهيم ولد الرشيد سيدي محمد ولد الرشيد
في قلب الصحراء الغربية المحتلة، تمتد شبكة نفوذ معقدة نسجتها عائلة واحدة على مدى خمسة عقود، محولةً الولاء السياسي إلى إمبراطورية اقتصادية تقدر ثروتها بحوالي 490 مليون يورو. هذه هي قصة عائلة الرشيد، التي حولت مدينة العيون والأقاليم الصحراوية إلى إقطاعية خاصة، تسيطر على مفاصل السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من العقار إلى البناء، ومن توزيع المحروقات إلى الصيد البحري، ومن السياحة إلى الصناعة، في نموذج فريد من الاحتكار المبني على علاقة الولاء التاريخية مع « المخزن » المغربي منذ السبعينات.
تبدأ القصة في ربيع عام 1975، عندما وقف خليهن ولد الرشيد، الشاب المولود عام 1951 في العيون تحت الاحتلال الإسباني، أمام الصحفيين في باريس معلناً بصوت واضح: « لولا الفوسفات، لما طالب أحد بالأراضي. المغرب لا يسعى لرفاهية الصحراويين، بل لاستغلال الفوسفات. نحن نريد الاستقلال ». كان خليهن وقتها رئيساً لـ »حزب الاتحاد الوطني الصحراوي » (البونس) الذي أسسه عام 1974 بدعم من السلطات الإسبانية للتصدي لمطالب التحرر التي رفعتها جبهة البوليساريو.
لكن في مايو من العام نفسه، شهدت الأراضي الصحراوية تحولاً دراماتيكياً غيّر مسار خليهن ولد الرشيد ومعه مسار عائلته بأكملها. فرّ الرجل إلى جزر الكناري ثم إلى المغرب، حاملاً معه، حسب بعض المصادر، ما بين 160,000 و 6 ملايين بيزيتا من حسابات بنكية تابعة للحزب. في 19 مايو 1975، وقف أمام الملك الحسن الثاني في مدينة فاس معلناً ولاءه الكامل للعرش المغربي، في انقلاب سياسي صادم حوّل المطالب بالاستقلال إلى خطاب الولاء والانتماء.
هذا التحول لم يكن مجرد موقف سياسي عابر، بل كان صفقة تاريخية رسمت ملامح نصف قرن من الهيمنة. شارك خليهن في تنظيم المسيرة الخضراء في نوفمبر 1975، وكمكافأة على ولائه، عيّنه الحسن الثاني وزيراً للشؤون الصحراوية عام 1977، منصب ظل يشغله حتى عام 1995. في عام 1977 أيضاً، انتُخب نائباً برلمانياً عن مدينة العيون، وفي عام 1983 أصبح عمدة للمدينة، منصب احتفظ به حتى عام 2009. اكتسب نفوذاً كبيراً تحت حكم الحسن الثاني بفضل قربه من وزير الداخلية القوي إدريس البصري، مما أتاح له بناء شبكة واسعة من العلاقات والامتيازات.
بعد وفاة الحسن الثاني عام 1999 وإقالة البصري، اعتقد خليهن أن مسيرته السياسية قد انتهت. لكن الملك محمد السادس أعاده إلى الواجهة السياسية عام 2006 بتعيينه رئيساً لـ »المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية » (الكوركاس)، المجلس المكلف بالترويج لمخطط الحكم الذاتي المغربي. يمتلك خليهن اليوم، في السبعينات من عمره، مصالح واسعة في قطاعات العقار، تحويل الأسماك، استغلال الرمال، الفنادق والمحروقات، مستفيداً من امتيازات ضخمة مُنحت له كمكافأة على ولائه المستمر.
إذا كان خليهن هو العراب السياسي للعائلة، فإن شقيقه حمدي ولد الرشيد، المولود عام 1947، يُعتبر الذراع الاقتصادية الحقيقية والدينامو الذي يدير الإمبراطورية المالية. منذ عام 2006، يشغل حمدي منصب رئيس بلدية ومجلس جماعة العيون، وهو أيضاً رئيس جهة العيون الساقية الحمراء، ونائب برلماني عن دائرة العيون منذ 2002، وعضو في المكتب المركزي لحزب الاستقلال ومنسق الحزب في الأقاليم الجنوبية الثلاثة.
لكن القوة الحقيقية لحمدي تكمن في إمبراطوريته التجارية والصناعية التي يديرها عبر « ميهر هولدنغ » القابضة التي تسيطر على قطاعات حيوية متعددة. في قلب هذه الإمبراطورية تقف شركة صبترول المتخصصة في توزيع الوقود والغاز، والتي تحتكر جميع محطات Shell*l في الصحراء الغربية وتسيطر على شبكة توزيع المحروقات في المدن الصحراوية. في عام 2019، باعت صبترول حصة 49% لشركة فيفو انرجي (هولندية مقرها في بريطانيا)، في صفقة عززت من قدرتها التنافسية وجعلتها اللاعب الأساسي في قطاع الطاقة بالأقليم المحتل. تتحكم صبترول في كل نشاط اقتصادي أو لوجستي يعتمد على الوقود، مما يمنح العائلة تحكماً استراتيجياً في شريان الحياة الاقتصادية للمنطقة.
لا تتوقف إمبراطورية حمدي عند المحروقات. تضم ميهر هولدنغ
أيضاً مجموعة من الشركات في قطاع البناء ومواد البناء، منها ميهر بريفا اي متيريو دي كونستركسيون المتخصصة في الخرسانة الجاهزة ومواد البناء، و ميهر سمنت لصناعة الإسمنت بطاقة إنتاجية كبيرة، و « م سي سيد » التي أسسها مع أبنائه (محمد، للا عنها،….). هذا التكامل الرأسي يسمح للعائلة بالاستفادة من كل مراحل المشاريع العمرانية، من المواد الأولية إلى التشييد النهائي، خاصة المشاريع الممولة من « النموذج التنموي الجديد » الذي أطلقه الملك محمد السادس عام 2015 بميزانية تصل إلى 47 مليار درهم في جهة العيون-الساقية الحمراء وحدها.
إلى جانب ذلك، تمتلك المجموعة شركات في الصيد البحري وتحويل الأسماك، مستفيدة من تراخيص الصيد الساحلي في المنطقة « ج » الغنية بالموارد السمكية. كما تدير شركات الخدمات اللوجستية والبناء المعدني والبحري، فنادق وعيادات طبية خاصة، ومصانع تصنيع الثلج مثل Myher Glace المجهزة بأحدث التقنيات لتصنيع الثلج بمختلف المقاييس لقطاعات الصيد والسياحة والصحة.
في عام 2021، بدأ حمدي (73 عاماً) بترتيب الخلافة، حيث عيّن ابنه سيدي محمد ولد الرشيد مديراً مشاركاً في معظم شركاته، مما يشير إلى عملية انتقال تدريجية للسلطة الاقتصادية للجيل الثالث من العائلة.
في الجيل الثاني من العائلة، يبرز سيدي حمدي ولد الرشيد، المولود عام 1971، كالواجهة « الحداثية » والسياسية الصاعدة. منذ عام 2015، يشغل منصب رئيس المجلس الجهوي للعيون-الساقية الحمراء، وأعيد انتخابه في 2021. هو أيضاً عضو في المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، وعضو في مكتب التوجيه لاتحاد جهات المغرب، ورئيس الغرفة الفلاحية بالعيون.
ما يميز سيدي حمدي هو أنه ابن أخ وصهر حمدي ولد الرشيد في الوقت نفسه، حيث تزوج من ابنته، مما يعكس استراتيجية العائلة في تعزيز الروابط الداخلية والحفاظ على النفوذ عبر الأجيال من خلال زيجات داخلية محكمة.
يُعتبر سيدي حمدي المسؤول الأول عن تنفيذ « النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية »، حيث يشرف على المشاريع الضخمة ويتواصل مع المستثمرين الأجانب، خاصة الفرنسيين، ويستقبل الوفود الدبلوماسية لترويج « فرص الاستثمار » في الصحراء الغربية المحتلة. في نوفمبر 2024، استقبل هو وعمه حمدي أكثر من 50 رجل أعمال فرنسي في العيون، ضمن جولة اقتصادية نظمتها غرفة التجارة والصناعة الفرنسية في المغرب، بهدف جذب الاستثمارات الأوروبية وتعزيز الوجود الفرنسي الاقتصادي في المنطقة. هذه اللقاءات جاءت بعد اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية في أكتوبر 2024، في خطوة عززت من موقع العائلة كوسيط رئيسي بين المستثمرين الأجانب والسلطات المغربية.
في مايو 2025، أعلن مدير الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD)، ريمي ريو، عن استثمارات بقيمة 150 مليون يورو في الأقاليم الجنوبية، بعد لقائه مع حمدي وسيدي حمدي ولد الرشيد. هذا الاستثمار يعزز الشراكات الاقتصادية ويُضفي « شرعية » دولية على الوجود المغربي في الأراضي المحتلة.
لكن تصريحات سيدي حمدي لم تخل من الجدل. في تصريح لإذاعة محلية، أثار سيدي حمدي جدلاً سياسياً واسعاً عندما تحدث عن حدود مشروع الحكم الذاتي، مما أثار غضب نواب برلمانيين من جهة كلميم واد نون، الذين اعتبروا تصريحاته محاولة لتقزيم دور جهتهم أو فصلها عن الملف الصحراوي. هذا الجدل كشف عن التوترات الداخلية حول توزيع النفوذ والموارد بين العائلات الصحراوية الموالية للمخزن.
في 12 أكتوبر 2024، حقق الجيل الثالث من عائلة الرشيد إنجازاً سياسياً غير مسبوق، عندما انتُخب سيدي محمد ولد الرشيد، المولود في 29 أكتوبر 1978 في العيون، رئيساً لمجلس المستشارين (الغرفة الثانية في البرلمان المغربي) بأغلبية ساحقة (94 صوتاً من أصل 104). هذا المنصب يجعله ثالث شخصية في البروتوكول الوطني المغربي، في دلالة واضحة على استمرارية نفوذ العائلة على أعلى مستويات السلطة في المغرب.
سيدي محمد، الحاصل على إجازة في القانون العام من جامعة محمد الخامس، يشغل أيضاً منصب النائب الأول لرئيس مجلس جماعة العيون (يساعد والده حمدي)، وهو عضو في المكتب التنفيذي لحزب الاستقلال، ورئيس تنفيذي لقابضة اقتصادية متخصصة في القطاعات الصناعية والخدمات.
في خطاب تنصيبه، أكد سيدي محمد التزامه « بالدفاع عن المصالح الوطنية » وجعل قضية الصحراء أولوية قصوى، معبراً عن فخره بالخطاب الملكي الأخير حول « المغربية النهائية للصحراء ». أكد أن « الدبلوماسية البرلمانية » ستكون أداة محورية لكسب الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على الصحراء، مشدداً على أن المرحلة المقبلة ستشهد « فصلاً جديداً من العمل البرلماني المتميز » يعزز مكانة المغرب ويدافع عن قضاياه.
وصول سيدي محمد إلى هذا المنصب الرفيع يعكس بوضوح الاستراتيجية العائلية طويلة الأمد: الانتقال التدريجي من السيطرة المحلية والجهوية إلى النفوذ الوطني والبرلماني، مع الحفاظ على السيطرة الاقتصادية من خلال القابضات والشركات العائلية.
لاستكمال الصورة، يسيطر خليل ولد الرشيد على منصب استراتيجي آخر: رئاسة غرفة التجارة والصناعة والخدمات لجهة العيون-الساقية الحمراء، منصب يشغله منذ عام 2001، وأعيد انتخابه بالإجماع في أغسطس 2021. كعضو في حزب الاستقلال وممثل لقطاع الصناعة الحديثة في الغرفة، يتحكم خليل في المؤسسة التي تمنح التراخيص التجارية وتدير العلاقات بين القطاع الخاص والدولة.
يُعتبر خليل بوابة العبور الإلزامية لأي مستثمر يرغب في العمل بالجهة، مما يعزز احتكار العائلة للنشاط الاقتصادي ويضمن أن أي مشروع تجاري أو صناعي يمر عبر شبكة نفوذها. هذا الموقع الاستراتيجي يكمل الدائرة: حمدي يسيطر على البلدية والجهة والبرلمان، سيدي حمدي يرأس الجهة والغرفة الفلاحية، سيدي محمد يرأس مجلس المستشارين، وخليل يتحكم في الغرفة التجارية، بينما يظل خليهن على رأس الكوركاس. إنها شبكة محكمة من السلطة السياسية والاقتصادية لا تترك مجالاً للمنافسة أو البديل.
تمتد سيطرة عائلة الرشيد الاقتصادية عبر كل القطاعات الحيوية في الأقاليم الجنوبية. في قطاع **المحروقات والطاقة**، تحتكر شركة Soptrol تقريباً كل محطات توزيع الوقود في المدن الصحراوية، وخاصة في العيون، مع السيطرة الكاملة على شبكة Shell.هذا الاحتكار يمنح العائلة تحكماً كاملاً في قطاع استراتيجي، حيث أن كل نشاط اقتصادي أو لوجستي يعتمد على الوقود يمر عبر شبكتها.
في قطاع البناء ومواد البناء يسمح التكامل الرأسي لشركات Myher بالاستفادة من كل مراحل المشاريع العمرانية، من إنتاج الإسمنت ومواد البناء إلى التشييد النهائي. هذا الموقع يضمن للعائلة الحصة الأكبر من المشاريع الممولة من « النموذج التنموي الجديد »، حيث تُمنح الصفقات العمومية بشكل تفضيلي للشركات المقربة من السلطة المحتلة.
في قطاع الصيد البحري وتحويل الأسماك تستفيد العائلة من تراخيص الصيد الممنوحة من الدولة المغربية في منطقة الصيد الساحلي « ج » (Stock C)، التي تُعتبر من أغنى المناطق السمكية في العالم. هذه التراخيص، الممنوحة كمكافأة على الولاء السياسي، تدر أرباحاً ضخمة دون معايير موضوعية أو شفافية.
في قطاع **العقار والأراضي**، تُتهم العائلة باستغلال نفوذها السياسي للاستيلاء على أراضٍ عمومية وتحويلها إلى مشاريع تجارية خاصة. تشمل الممارسات المُوثقة تحويل مناطق خضراء ومساحات عمومية إلى عقارات تجارية، بيع الأراضي البلدية بأسعار باهظة لدائرة ضيقة من المقربين، وإنشاء أسواق مؤقتة بالقرب من أراضٍ فارغة لإجبار التجار على الانتقال، ثم بيع الأراضي المركزية بأسعار مرتفعة، قبل التخلي عن الأسواق الجديدة في دورة مستمرة من المضاربة والإثراء.
أما في قطاع الفوسفات فرغم أن شركة (فوسبوكراع) مملوكة بالكامل لـ المكتب الشريف للفوسفاط ، وهي شركة دولة، إلا أن عائلة الرشيد تستفيد من النظام الاقتصادي المرتبط بالفوسفات عبر علاقات تعاقدية في قطاعات الخدمات واللوجستيك المرتبطة بالمنجم، وتشغيل البنية التحتية (ميناء العيون، النقل، الطاقة)، والامتيازات السياسية الممنوحة لهم كداعمين لسياسة « المخزن » في الصحراء.
ينتج منجم بوكراع حوالي 2.6 مليون طن سنوياً، ما يمثل حوالي 8% من إجمالي إنتاج المكتب الشريف للفوسفاط و20% من صادراته من الصخور الفوسفاتية. تُقدَّر قيمة الصادرات السنوية بحوالي 200 مليون دولار(حسب الأرقام المغربية). يعمل في الشركة حوالي 2,195 موظف، لكن تقارير توثق أن الصحراويين يمثلون نسبة ضئيلة من العاملين، بينما يُجلب معظم العمال من مدن المغرب (خريبكة، آسفي). تُتهم الشركة بانتهاكات حقوق العمال، منها عقود قصيرة الأمد (3 أشهر قابلة للتجديد) كأداة لإسكات المطالبات، غياب معدات الحماية الكافية، التعرض لغبار الفوسفات السام (الذي يحتوي على الكادميوم واليورانيوم)، تسجيل رواتب أقل في سجلات الضمان الاجتماعي من الأجور الفعلية، وغياب التفتيش الطبي الدوري رغم المخاطر الصحية.
تسيطر عائلة الرشيد على معظم مستويات الحكم المحلي والجهوي والوطني في تشكيلة فريدة من نوعها. على مستوى البلدية يرأس حمدي ولد الرشيد جماعة العيون، مع ابنه سيدي محمد كنائب أول. على مستوى الجهة يرأس سيدي حمدي ولد الرشيد المجلس الجهوي للعيون-الساقية الحمراء. على مستوى البرلمان الوطني حمدي وسيدي محمد نواب برلمانيون، وسيدي محمد يرأس مجلس المستشارين (الغرفة الثانية). على مستوى المؤسسات الاستشارية يرأس خليهن الكوركاس (المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية). وعلى مستوى الغرف المهنية يرأس خليل غرفة التجارة والصناعة ويرأس سيدي حمدي الغرفة الفلاحية.
هذا الاحتكار يسمح للعائلة بالتحكم في القرارات الإدارية، توزيع الصفقات العمومية، منح التراخيص، وتوجيه الاستثمارات لصالحها. أصبحت العائلة القوة الضاربة لحزب الاستقلال في الصحراء، حيث يشغل حمدي ولد الرشيد منصب منسق الحزب في الإقليم المحتل بالكامل، وكان له دور حاسم في وصول نزار بركة إلى منصب الأمين العام للحزب.
يستغل أفراد العائلة مناصبهم البرلمانية والدبلوماسية للترويج لـ »مخطط الحكم الذاتي » المغربي في المحافل الدولية، وتقديم صورة « مزدهرة » عن الأقاليم الجنوبية. سيدي محمد ولد الرشيد، بصفته رئيس مجلس المستشارين، أكد في خطاباته أن « الدبلوماسية البرلمانية » ستكون أداة محورية لكسب الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على الصحراء.
على الرغم من الخطاب الرسمي عن « التنمية والازدهار »، يواجه الصحراويون الأصليون واقعاً مريراً من التمييز الاقتصاديو التهميش الممنهج . تذهب معظم الوظائف في الشركات الكبرى لمغاربة من الشمال، بينما يواجه الصحراويون بطالة مرتفعة وصعوبة في الوصول إلى فرص العمل في قطاعات الفوسفات والصيد والبناء. وعند توظيفهم، يحصل الصحراويون على رواتب أقل ووظائف غير مستقرة، مع غياب الحماية الاجتماعية والعمل في القطاع غير الرسمي دون تأمين أو حقوق.
توثق تقارير محلية ودولية انتهاكات حقوق العمال في شركة فوسبوكراع، منها ظروف عمل خطرة، غياب معدات الحماية، التعرض للمواد السامة، عقود غير مستقرة (3 أشهر قابلة للتجديد) كأداة ضغط وإسكات، ومنع التنظيم النقابي والمطالبة بالحقوق. عمال احتجوا أمام منزل حمدي ولد الرشيد للمطالبة بحقوقهم، في مشهد يعكس العلاقة المتوترة بين السكان المحليين والنخبة الحاكمة.
تُوثق منظمات حقوق الإنسان القمع الأمني المستمر، من اعتقالات تعسفية لنشطاء صحراويين يطالبون بالحقوق الاقتصادية أو الاستقلال، إلى تعذيب معتقلين في مراكز الشرطة، مراقبة لصيقة للنشطاء الحقوقيين وتقييد حركتهم، ومنع الصحفيين والباحثين الأجانب من الوصول للمنطقة.
في أكتوبر-نوفمبر 2010، شهدت الصحراء الغربية أكبر احتجاج سلمي في تاريخها، عندما أقام آلاف الصحراويين مخيم كديم إيزيك(Gdeim Izik) على بعد 12 كم من العيون. كان المخيم احتجاجاً على التمييز الاقتصادي، الفقر وسوء الأحوال المعيشية، نهب الموارد الطبيعية، وانتهاكات حقوق الإنسان. وصل عدد المحتجين إلى حوالي 30,000 شخص، يعيشون في آلاف الخيام التقليدية في تظاهرة سلمية استمرت 28 يوماً.
وصف المحلل السياسي نعوم تشومسكي مخيم كديم إيزيك بأنه « البداية الحقيقية للربيع العربي »، قبل شهر من حادثة محمد البوعزيزي في تونس. كان المخيم رمزاً للمقاومة السلمية، حيث حوّل الصحراويون الصحراء إلى مدينة بديلة، تعبيراً عن رفضهم لسياسات التهميش والإقصاء التي تمارسها السلطات المغربية والنخب المحلية الموالية لها.
في 8 نوفمبر 2010، فككت القوات المغربية المخيم بالعنف الشديد، مستخدمة 3,000 عنصر أمني. أدى التدخل العنيف إلى سقوط قتلى (11 من قوات الأمن المغربية و2-36 صحراوياً حسب الأرقام المتضاربة)، مئات الجرحى من الصحراويين، وحوالي 500 معتقل، بينهم نشطاء حقوقيون.
ما بعد كديم إيزيك شهد محاكمات عسكرية لـ25 صحراوياً، حُكم عليهم بالسجن لفترات طويلة، وتقارير عن تعذيب المعتقلين في سجن سلا والسجن الأسود بالعيون. لا يزال « سجناء كديم إيزيك » محتجزين حتى اليوم، بعد مرور أكثر من 15 عاماً على الأحداث، في دلالة واضحة على استمرار القمع والرفض الرسمي للمطالب الصحراوية.
في ديسمبر 2006، قبل أحداث كديم إيزيك بسنوات، صرح خليهن ولد الرشيد أن أي اتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان في الصحراء الغربية هي « هراء ». لكن الأرقام المفزعة للاعتقالات والإصابات، والاحتجاجات الواسعة التي شهدها مخيم كديم إزيك قبله وبعده، تُثبت رفض الشعب الصحراوي الواسع للحكم المغربي ولسياسات النخب الموالية التي تمثلها عائلة الرشيد.
تكشف هذه القصة عن إمبراطورية عائلية متشعبة تسيطر على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العيون والصحراء الغربية المحتلة. من خلال الولاء التاريخي للمخزن المغربي، حولت عائلة الرشيد نفسها من قادة محليين إلى قوة احتكارية تتحكم في القطاعات الحيوية: المحروقات عبر « صبترول »، البناء والإسمنت عبر « ميهر »، الصيد البحري عبر التراخيص الحصرية، العقار عبر الاستيلاء على الأراضي العمومية، والخدمات عبر الفنادق والعيادات والمصانع.
هذا النفوذ ليس نتيجة « كفاءة » أو « مبادرة خاصة »، بل هو ثمن صفقة سياسية بين النظام المغربي وعائلة قبلت أن تكون أداة للاحتواء مقابل امتيازات ضخمة. تقدم العائلة للنظام المغربي ثلاث وظائف رئيسية: الاحتواء الاجتماعي (السيطرة على الاحتجاجات والتحكم في النسيج المجتمعي الصحراوي)، الشرعية السياسية(تقديم « وجه صحراوي » للحكم المغربي)، والترويج الدولي(الدفاع عن « الحكم الذاتي » في المحافل الدولية).
في المقابل، تحصل العائلة على التراخيص الاحتكارية(صيد، رمال، عقارات، محروقات)، الصفقات العمومية(أولوية في مشاريع « النموذج التنموي »)، الحماية السياسية(حصانة من المساءلة والنقد)، والترقية السياسية(مناصب حكومية ومؤسساتية رفيعة).
الثمن الاجتماعي لهذه الصفقة هو تهميش ممنهج للصحراويين الأصليين الذين يواجهون بطالة، تمييزاً اقتصادياً، استغلالاً في العمل، وقمعاً أمنياً عند المطالبة بحقوقهم. معظم الاستثمارات تذهب لشركات مقربة من المخزن أو العائلة، الوظائف المستحدثة تذهب لمستوطنين من المغرب وليس للصحراويين، والموارد الطبيعية (الفوسفات، الأسماك، الرمال) تُستغل لصالح المركز (الرباط) والنخب الموالية.
التحدي الآن هو كشف هذه الشبكة، في ظل بيئة قمعية تمنع الصحفيين والباحثين من الوصول للمنطقة، وتُسكت الأصوات المعارضة بالاعتقال والتعذيب. الهدف النهائي هو إعادة السرديّة للصحراويين المهمشين وكشف كيف يُستخدم ريع نزاع الصحراء الغربية لإثراء نخبة ضيقة موالية للإحتلال لمصالحها الشخصية وفقط، بينما يُحرم السكان الأصليون من حقهم في تقرير المصير واستغلال موارد أرضهم بشكل عادل.
المصدر : محمد ديحاني