لقد كشف سؤال واحد هشاشة بناء كامل؛ وجواب واحد مرتبك كشف أن الرواية القائمة ليست نتيجة قوة، بل نتيجة حاجة سياسية ملحّة لإخفاء واقع مختلف، وحين يحتاج النظام إلى تسويق سيادته بدل ممارستها، فهذا دليل كافٍ على أن هذه السيادة ليست معلومة بديهية، بل مطلب سياسي لم يتحقق بعد، رغم عقود من الإنكار.
Tags : المغرب الصحراء الغربية عمر هلال جبهة البوليساريو القرار 2797 (2025)
محمد قنديل – مدون، ناشط حقوقي وسياسي مغربي مستقل
في مقابلة حديثة مع قناة بيبسيمن خلال برنامج {بلا قيود}، وتحديدًا عند الدقيقة الخامسة عشرة من عمر البرنامج، وُجه إلى ممثل النظام المغربي السفير الدائم لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، سؤال لا يتطلب من الخبراء في القانون الدولي أو العلاقات الدولية الكثير من الجهد لفهم عمقه : إذا كانت الصحراء مغربية، فلماذا تعرضون عليها حكمًا ذاتيًا؟
هذا السؤال، ببساطته ووضوحه، بدا كمن يسلّط ضوءًا ساطعًا على جدار هشّ بُني طيلة عقود فوق شعارات وطنية، لكنه في الجوهر جدار مهزوز لا يصمد أمام أول إختبار منطقي؛ غير أن الأكثر دلالة لم يكن السؤال ذاته، بل الجواب الذي قدمه هلال، إذ خرج عن صلب الموضوع، وبدأ يتحدث عن حسن الجوار مع الجزائر { وتقدم المغرب العربي } وعودة { المهجرين }، وهي عبارات تائهة لا تُجيب عن شيء، بل تكشف إرتباكًا لا جدال فيه.
جواب هلال لم يكن زلة لسان، بل كان نتيجة طبيعية لخطاب رسمي متناقض في جذره، فالدولة التي تعتبر جزءًا من أراضيها { مغربية دون نقاش } لا تقترح عليه حكمًا ذاتيًا، ولا تبحث عن إعتراف دولي، ولا تبذل جهودًا مضنية لإقناع العالم بموقفها. فالمبدأ في العلاقات الدولية بسيط.. الأرض التي تخضع لسيادتك لا تطلب لأجلها وساطة أممية، ولا تقترح لها نظامًا سياسيًا خاصًا. فرنسا لا تمنح بريتاني حكمًا ذاتيًا، وإسبانيا لا تقترح الحكم الذاتي على الباسك، والصين لا تعرض صيغًا تفاوضية على الإيغور… وحده النظام المغربي يجد نفسه مضطرًا لتقديم مبادرة حكم ذاتي إلى الأمم المتحدة، ثم يتساءل لماذا لا يُصدّقه العالم!؟.
الإرتباك الذي بدا على الدبلوماسي المغربي أمام الكاميرا ليس حالة فردية، بل هو إنعكاس لبنية كاملة من الخطاب السياسي الرسمي الذي لم يُبن على الحقائق، بل على محاولات مستمرة لفرض سردية أحادية على الداخل، ثم تسويقها للخارج بوسائل ضغط وتحالفات ومقايضات، ورغم كل ذلك، ما يزال هذا الخطاب عاجزًا عن تقديم إجابة واحدة متماسكة على سؤال بديهي : لماذا تحتاج دولة إلى حكم ذاتي في جزء من ترابها إذا كانت السيادة محسومة؟؟.
لماذا تتسول الخارجية المغربية الإعتراف بسيادة مزعومة إذا كانت هذه السيادة { تاريخية ولا جدال فيها } كما يردّد الإعلام الرسمي؟؟.
في العلوم السياسية، السيادة مفهوم مركزي يقوم على ثلاثة عناصر : الإعتراف، السيطرة، والشرعية.
المغرب لا يملك أيًا من هذه العناصر بشكل كامل في الصحراء الغربية، فلا إعترافا دوليًا شاملًا، ولا سيطرة كاملة مستدامة، ولا شرعية سياسية معترف بها من الأمم المتحدة، التي ما تزال تصنف الإقليم كأرض لم تقرر مصيرها بعد ضمن لائحة تصفية الإستعمار، ولذلك يجد الدبلوماسي المغربي نفسه مضطرًا للمراوغة كلما واجهه صحفي محترف بسؤال مباشر.
السؤال الذي طرحته الصحفية على هلال المخزن لم يكن سياسيًا فقط، بل كان أيضًا سؤالًا إختباريًا للمنطق المؤسساتي، والجواب كان إنهيارًا تامًا لهذا المنطق، فالتهرب من الإجابة، واللجوء إلى تحويل الموضوع نحو الجزائر، يعكس إعترافًا ضمنيًا بأن النزاع ليس نزاعًا داخليًا كما تقول الرواية الرسمية، بل ملفًا دوليًا مفتوحًا بين طرفين رئيسيين، أحدهما المغرب والآخر جبهة البوليساريو المدعومة سياسيًا ودبلوماسيًا من الجزائر، كما تعترف بذلك الأمم المتحدة نفسها.
تساؤل آخر يفرض نفسه بقوة : إذا كانت الصحراء مغربية بالفعل، فلماذا يخشى النظام من مجرد طرح السؤال داخل المغرب؟؟. ولماذا يُلاحَق، يُسجن، ويُشرَّد كل من يناقش هذا الملف خارج الإطار الدعائي الرسمي؟؟.
الدولة الواثقة من سيادتها لا تخاف من النقاش، ولا تُجرّم الرأي المخالف، ولا تغرق إعلامها في شعارات وطنية بدل الحجج السياسية… لكن النظام المغربي، لأنه يفتقر إلى أساس قانوني صلب، يعوض ذلك بالقمع الداخلي والتسول الدبلوماسي الخارجي.
إن ما حدث في مقابلة بيبيسي يجب أن يُدرَّس في كليات العلوم السياسية كنموذج حيّ لكيف ينكشف ضعف الخطاب الرسمي عندما يُواجه بأسئلة بسيطة، ففي اللحظة التي يسقط فيها القناع الدعائي، تظهر الحقيقة.. القضية ليست كما يصفها المخزن، بل هي نزاع دولي معقّد تحاول الدبلوماسية المغربية إحتواءه بشعارات، بينما يديره العالم بلغة القرارات الأممية والقانون الدولي.
لقد كشف سؤال واحد هشاشة بناء كامل؛ وجواب واحد مرتبك كشف أن الرواية القائمة ليست نتيجة قوة، بل نتيجة حاجة سياسية ملحّة لإخفاء واقع مختلف، وحين يحتاج النظام إلى تسويق سيادته بدل ممارستها، فهذا دليل كافٍ على أن هذه السيادة ليست معلومة بديهية، بل مطلب سياسي لم يتحقق بعد، رغم عقود من الإنكار.
ما جرى في هذه المقابلة ليس مجرد موقف إعلامي، بل لحظة سياسية حقيقية وثّقت، أمام العالم، أن خطاب المخزن حول الصحراء الغربية ينهار عند أول مواجهة جدية، وأن الحقيقة { مهما حاول النظام إخفاءها } تبقى أقوى من الشعار، وأوضح من كل إزدواجية لغوية تحاول تغليف واقع لا يمكن الإستمرار في إنكاره.